«قال الذين جاءوا من قبلنا: لا يستطيع رجل ارتداء وجهٍ لنفسه وآخر للناس…».
تلك هي الرحلة التي يعبر عنها ويجز في ألبومه؛ رحلة رجل قد تعب من حمل وجهٍ آخر على وجهه. فالرجل قد وصل لما وصل له بسبب كلمات أثرت في جمهور من الشباب التائهين في الحواري، لا يملكون سوى سمٍّ في الطبق بجانبه حلم واترفض. والآن استيقظ ليجد نفسه بين فتيات التجمع يحكي لهن قصة ركيكة عن كونه شابًّا فقيرًا يغني لأميرة بنت راجل بيه، جايز كلامه معاها عيب. يتأمل الجمهور من حوله ويتساءل: «هو في حد في العلمين بادئها من تحت اتفحت وحرت؟» وبقليل من النظر إلى وجوههم يتأكد في تلك اللحظة بالذات أنه قد خسر الشعب.
يبدأ ويجز الأغنية بأنه قد خطف وجرى، والحق يقال: فالرجل فعل. ولأنه يعلم أن استمراره في أغاني مثل «حواري» و«ورديان» قد يجلب له الدوشة، فقد قرر خسارة الشعب. ولكنه غير متأكد أن هذا ما يريده حقًا، فهو صعبان عليه يسيب اللي بين إيده وكل اللي وصله، ويعود لأصحابه القدامى وأطباقهم المليئة بالسم. وأصحابه على مدار الألبوم هو التعريف الذي يصف به مستمعيه القدامى. وفي نفس الوقت يعلم جيدًا أنه إذا باع نفسه فلن يحصِّل. وبين هذا وذاك يحاول مناكشة أخصامه، لكن صوتًا في رأسه يخبره أنه لو عنده سعر فهو عنده لجام. يؤنب نفسه على تلك القرارات. هو يعلم أن «الكنز في الإحساس ازميلي»، لكن هل ينتصر ذلك الصوت؟ لأ. لأن ويجز لا يكتفي بتجاهل الصوت بل يعلن عن عدم اكتراثه به في الأغنية التي تليها: «بيقولوا ما يقولوا».
تلك الأغنية التي يتحدث فيها ويجز الإيجو؛ شاب يدرك أنه لا يهتم بما يقولون. لا يحتاج النصح عن الكنز والإحساس، فهو يرى نفسه «حوت» مش شاب «بيضبش». يستمر في تبرير خسارته للشعب بأنه مش كل عركة نخشها؛ ببساطة لأننا قد نخسر خسارة فادحة. ولماذا يسمع كلام الشعب؟ هل كان سيصل هنا إذا سمع؟ فالناس قد قالوا: لأ. ولكنه عملها. إذًا فليقولوا ما يقولوا.
وإن كانوا لا يتذكرون، فالمقطع التاني يذكرهم بكيف بدأ، عن طريق مشهد شديد الجمال يصف فيه تلك اللحظة التي قرر فيها الغناء:
«وقَفت ع الرمل وولعت
سحرتني الموجة ودمعت
زمايلي في الظيطة مش ملاحظة
بس كانوا جنبي زي ما سمعت
فتحت قلبي وشاركت همي
زميلي طبطب، زميلي قالّي
إن الدنيا دي بتسلي
عادي أطمن لها وتجلّي»
بالتأكيد أنت تفهم الآن أن زميله الذي طبطب هو جمهوره القديم من ذوات الطبق والسم.
بالتأكيد لا. لازال تائهًا، والصوت في رأسه يطارده. يأخذ الفنان نفسَه، ثم يأخذ خطوة لورا؛ مشهد يوحي بانطلاقة قادمة. لكنه يفاجئنا بأنه لا يعلم يجري لأين. كل ما يطلبه هو طريق ليجري فيه، ثم يعود مرة أخرى ليبرر لنفسه أن «الصياعة» هي أن يلعب مع الجميع ويشغلهم: الصايع المحترم. وبعد سطور يقرر فيها أنه قد وجد ضالته، يعتذر للجمهور الذي خسره بمبرر هو الأجمل والأبسط في تاريخ الراب: «كان عندي تريب وجودي.. عصامي عمري ما كنت وصولي».
ولأنه عصامي فمن السهل تبرير كل سقطاته. على الأقل ما اتجننش زي محمد رمضان. هل يستطيع خصومه الإتيان بمثل هذا؟ بالطبع لا. ما تطلعش منهم، عشان على قدهم.
يُكمل ويجز جلسة الصراحة تلك بأغنية هي المفضلة لي في الألبوم: «باد دايز»، ليحاول شرح معاناته مع اللي فوق لصحابه اللي تحت. حتى أنه يبدأ الأغنية بأنه يعلم أن قرار خسارة الشعب كان قرارًا خاطئًا، وأن لا أحد يجامله على هذا سوى أعدائه. فلقد أصبح الشاب محاطًا بالمزيفين من كل اتجاه. تحبه الفتاة فلا يعلم: أهي تحبه لأنه ويجز أم لأنه يستحق الحب؟ يمتلك الكثير والكثير، و«باد دايز»، لا يجد حوله من يشاركه مشاعره بصدق. يحمل شخصان بداخله، وجهًا على وجهه، عنوان بطاقته وحسابه مش لايقة، كما أنه «ريتش بوي» والجيتو في قلبه. وقد كان من الممكن أن يكتفي بتشبيه واحد من هذا النوع، لكنه أصر على أن يساعدني لأثبت منطقية كلامي بتشبيهين حتى لا يصبح شكلي «عرص».
ولكنك تبدو غير مكتفٍ بمبرراته؟ إذًا دعه يشرح لك أكثر لماذا قد أخذ قرارًا مثل هذا:
«يا أيام حياتي، كل ده بقيته
أنا نويت أغامر واللي جريت عليه لقيته
وأمّا نزل طبقي نسيت اللي عانيته
أنا اللي لعبته لعبته واللي عشته حكيته»
ببساطة فالدنيا مظهر ومال. قولي مين مبسوط؟ هل من كسب الشعب مبسوط؟ انت مبسوط؟ بابلو مبسوط؟ أيًا كان اختياره، فقد عرف ويجز أن المصيبة جاية جاية، والبلد تنهار، وزميلي يبقى الحال. ما أتوقعش في يوم هنفوق. فمعلش عديها لي، أنا نسيت أحلامي والله. وبصراحة ملقيتش حل غير إني أنفد بجلدي:
«قررت أقتل أقتل أقتل
قررت أملى جيوبي».
فيرد ويجز بأنه عاش سنينه تعبان، شقيان، ومالوش مين يراعيه. لكن لا تقلق، سيعود من جديد. ويا قلبه هتتعافى، يا ناره هتطفي.
إذًا، فقد آن الأوان لأن يعود الفنان. بكلمات تحمل نبرته القديمة: يغسل وجهه، ويقف ليغسل أفريقيا. يعاملهم بطرف مناخيره. لا تكونوش فاكرينه بطَّل أو حاجة، لا.. «الجاي ضرب».
جامد يا ويجز. ده أكيد مش إنكار صح؟ «الجاي ضرب» فعلًا؟
ينفجر ويجز في البكاء والنحيب. قد فاض به الكيل ولم يعد يحتمل العيش بوجهين. لأن الذين جاءوا قبلنا عندما قالوا إنه «لا يستطيع رجل ارتداء وجهٍ لنفسه وآخر للناس» برروا هذا بأن الرجل سيصاب في النهاية بالحيرة، وهو لا يدري أي الوجهان هو وجهه الحقيقي.
وهو الأمر الذي لازال يتألم منه في أيامه؛ أيامه الزحمة اللي واخداه من نفسه. وأنا عارف إنكم زهقتوا من إنه رايح جاي بين الشخصيتين، لكنه يريد أن يعرف: ماذا يفعل مع الحيرة؟
«أنا هعيش لنفسي ولا… هفضي نفسي وأعيش للناس؟»
والأيام تمر أمامه، تفرم أحلامه التي قد نساها مقابل المظهر والمال. ولا يريد سوى لحظة صمت يراجع فيها نفسه. فقط أعطوه لحظة، وسيعود بتفسير لكل شيء.
ها هو قد عاد. أرنا يا ويجز، ماذا اكتشفت في لحظة الصمت؟
غريبة!
إيه؟
ما شوفتش حد كبير عالدنيا
ما شوفتش حد كبير عالوجع
أنا ما هربتش من ماضيَّا
ماضيّا خلاني أنا.
نعم يا ويجز، غريبة فعلًا الدنيا دي. الصبح بنشتكي من الزحمة وآخر الليل نشتكي من الوحدة. وفي أيام الفقر نصرخ بأننا عايزين المال «خليلك راحة البال». وعندما تزهزه ويلعب الزهر ندخل في «تريب وجودي». فعلًا… غريبة.
ولكن في أيام الفقر والضلمة كان معه أصدقاء، استمعوا لكلماته وشجعوه، دفعوه دفعًا للأمام. يحييهم ويجز ويشكرهم على تلك الدفعة:
«انت تستاهل حبي ليك، في الضلمة ما سبتنيش».
وانت حبيبي يا ويجز بجد. حمد لله على السلامة. بقيت كويس؟
نعم. وقد عاد ليغني لأصدقائه القدامى:
«شباب كله جراءة، بيغنوا بحرارة
عشان الجيل مستنزف، عشان حاسين بمرارة
بقالنا سنين بنحاول بنفوس كلها إرادة
مش عارفين ليه بنجري؟ أكن في وحش ورانا».
نعم يا ويجز. بقالنا سنين بنحاول والله، 14 سنة تقريبًا. ولكن لماذا تغني تلك الكلمات على موسيقى حفلات الخبط؟ أتلك الطريقة التي ستكسب بها الشعب والعلمين الجديدة؟ اشتريت، بصراحة موافق. ولكن بصراحة بردو، أصدقاءك القدامى ساقهم العشم ويريدون واحدة من بتوع زمان. ممكن؟ أم أنك نسيت الطريقة؟ شكلك نسيت.
بالطبع لا ينسى. فالأسطورة تقول إن من امتلك القدرة على كتابة «الزار» يستطيع بالطبع كتابة «أفتربارتي». تحية لأصحابه القدامى، ماما واخواته. وأما عن الديون فقد وفى بيها: البفة والجيهة. والحفلة في العلمين تكنو وحاجات من دي. أما الأفترة فبالطبع مع أصحابه.
بالتأكيد قد يكون هذا الكلام كله كلام فارغ، والأغاني لا يجمع بينها أي شيء يا عبقري زمانك، وأنني كبرت الموضوع. ولكن أليست تلك الحياة؟ رحلة عشوائية نحاول البحث عن معنى فيها؟ وطريق طويل من أكتوبر لوسط البلد نحاول ملأه بأي شيء، مثل كتابة كل تلك السطور؟